منتديات مجلة أقلام - عرض مشاركة واحدة - حوار العلم والدين في الإسلام بين الفيزياء والدين والفلسفة
عرض مشاركة واحدة
قديم 31-07-2006, 02:05 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
سمير مهيوب
أقلامي
 
إحصائية العضو






سمير مهيوب غير متصل


افتراضي مشاركة: حوار العلم والدين في الإسلام بين الفيزياء والدين والفلسفة

وما يهدف إليه الباحث عبر هذا الحوار بين العلم والدين تجاوز النزعة التقليدية والنزعة التمجيدية للماضي من جهة ومناهضة التقانية الأداتية التي سيدتها النزعة الرأسمالية في العالم كنموذج أمثل ووحيد من جهة أخرى، وذلك بالجمع بين مؤهلات الماضي التي أخذها وطورها الغرب دون الوقوف عليها فحسب، وطرح سؤال الانحطاط والانتكاسة الذي يلم بنا في جميع المجالات.

وإعداد هذا النموذج يتم من خلال الخروج من تلك النظرة المتخيلة للغرب وإزاحتها من لا وعينا، فالغرب ليس كتلة هلامية متجانسة، ثم النفاذ إلى فهم النزعة المنفعية السائدة فيه عبر الربط بين استقلالية الفرد كقيمة عليا والحرية، حرية الفعل والمبادرة...

فلقد سبق لبرتراند رسل ( 1872- 1970) أحد أكبر فلاسفة الغرب أن قال:<< في العصور الوسطى المظلمة كان العرب هم الذين يقومون بمهمة تنفيذ التقاليد العلمية، أما المسيحيون ...، فقد اكتسبوا منهم إلى حد بعيد ما اكتسبوه من معرفة علمية حازتها العصور الوسطى اللاحقة>>. (1934:22)

وما يدعوا إليه الباحث ليس تمثل الغرب والذوبان فيه بقدر ما يعني صياغة نموذج إنساني كوني لا يقطع مع الآخرين وإنما يتجاوزهم، فالغرب لم يقطع معنا لأنه أخذ منا، وفك الغلالة بين التحديث والتغريب، يعني الفصل بين التغريب ومشروع الحداثة في العالم العربي. والحداثة بهذا المعنى مدخل ضروري لتحقيق الذات وفك التبعية.

* * *

أما المداخلة الثالثة فلقد قام بها جون فرانسوا لامبير أستاذ مختص في سيكولوجية الجهاز العصبي بجامعة فانسين تحت عنوان: << العلوم العصبية والفلسفة>>، بحيث ينطلق من إشكالية الربط بين الوعي والدماغ والمفارقة الموجودة أمام الدارس عند محاولته تعريف الوعي والصعوبة التي تصادفه في ذلك: بحيث عادة ما نجد عدة مرادفات لها: كالفكر والذهن والنفسية أو الروح التي تشير في مجملها إلى النشاط النفسي الواعي أكثر من إشارتها إلى النشاط النفسي اللاواعي.

لا ينكر الباحث دور علم النفس المعرفي الذي يدرس الاختيار والحرية والإرادة التي ألغاها علم النفس السلوكي من دائرة اهتمامه، ليساهم بدوره في معرفة الطرق التي يفكر بها الإنسان ويكشف كنه معرفته وتصوراته كمحددات أساسية للشعور والفعل والسلوك، ثم ما تلى ذلك من مقابلة الذكاء الاصطناعي بالذكاء الطبيعي والعقل الإنساني بالعقل الإلكتروني...

قد يقول قائل أن فضل ذلك كثير، بحيث تمكنا من خلال الفيزيولوجيا العصبية وعلم النفس المعرفي تعريف الدماغ وتحليل وظائفه وعناصره (المخ والمخيخ والنخاع المستطيل= الثلاثة يشكلان الدماغ)، وإن كان الأمر ليس تحصيل حاصل أو بالسهولة التي نظن يضيف الباحث ولو فيزيولوجيا، ما دام إن الجهاز العصبي للإنسان معقد بطريقة ليس من السهل الوقوف عليها باستفاضة تامة، ذلك إن لكل جزء من أجزاء الجهاز العصبي مهام ووظائف متشابكة ومتعددة ومعقدة.

ولا بأس يشير الباحث من اللجوء للفيزيولوجيا العصبية لتبيان محدودية ذلك، فالجهاز العصبي ينقسم إلى كل من: 1)- الجهاز العصبي المركزي ويشمل المخ والنخاع الشوكي.

2)- الجهاز العصبي الطرفي ويشمل الأعصاب المخية (الدماغية) والأعصاب الشوكيةـ الجهاز العصبي الذاتي.

وهذه الأعصاب ذوات أهمية كبرى لأن الأعصاب الدماغية والأعصاب الشوكية لا تقوم بنقل الإثارات الحسية التي تمككنا الإحساس بما يجري حولنا فحسب، ولكنها تنقل أيضا الإثارات العصبية التي تدفع عضلاتنا إلى العمل. فالأعصاب التي تحمل الأحاسيس من الجلد وأعضاء الحس إلى المخ والنخاع الشوكي (spinal cord) هي الأعصاب الحسية (Sensory Nervous) التي تنقل الرسائل عبرها في اتجاه الجهاز العصبي المركزي (Central Nervous system)، أما الأعصاب التي تحمل الإثارات التي توضح لعضلاتنا كيفية الحركة والعمل فتسمى الأعصاب الحركية (Motors nerves).

لقد استطاع علم الأعصاب النفاذ إلى وظائف الأعصاب الدماغية ليرصد اثنى عشر زوجا من الأعصاب الدماغية تقع في السطح الأسفل من المخ ( وهذه الأعصاب هي العصب الشمي (الشم) والعصب البصري (البصر) والعصب المحرك للعين والعصب البكري والعصب المبعد( وكلاهما يحتوي على ألياف حسية وحركية معا) والعصب التوأمي الثلاثي(= عصب مختلط يحتوي على الألياف الحركية التي تتحكم في عضلات المخ يقوم بحمل رسائل حسية إلى المخ من معظم أجزاء الوجه، وفي الوقت ذاته يحمل في الاتجاه العكسي الأوامر التي تتحكم في عضلات المضغ) والعصب الوجهي.

وتفيد العلوم العصبية بقدرتها اليوم على حصر جميع أنشطة الدماغ وتصويرها وهي تقوم بوظائفها. غير إن هذا العالم يرفض رفضا باتا أن يستطيع علم الأعصاب أن يستطيع أن يقدم المعلومات ذاتها عن التغييرات النفسية والمزاجية التي تظهر بين الحين والآخر، بل يتحدى علم الفيزيولوجيا العصبيةأن يستطيع تحديد بدقة العلاقة بين الدماغ والروح أو النفس خزان الانفعالات، وكيف يتم الربط بين الأعصاب وحالات الفرح والحزن والحماس والغضب والخوف في المخ...

فحتى التصوير الضوئي لأنشطة الدماغ المختلفة لا يستطيع على وجه التحديد فك شفرة سائر الرسائل المتبادلة بين جميع أجهزة المخ وبالأحرى سائر أعصابه.

فإذا قورن المخ البشري بالمخ الإلكتروني فإنه على وجه التقريب يحتوي على 15 مليون أنبوبة إلكترونية بالعودة إلى أعمال جوهانسون شالريه الذي يؤكد إن المخ البشري يحتوي على 1500 مليون خلية عصبية كل خلية منها تعمل بقوة واحدة على الألف مليون من (الوات) ويعمل المخ كله بقوة تبلغ حوالي عشرة وات.

لذلك فما نقيسه إلا جزءا بسيطا من النشاط العصبي وليس كله...

وأنى لهذا العلم أن يستطيع أن يقدم معرفة طبيعية تحدد الجزء المظلم فيه الروح. فالقول بإمكانية حصر جميع أنشطة الدماغ رياضيا وحسابيا، يعني إمكانية مكْينة الدماغ وإعادة تصنيعه مستقبلا.. هراء.

إذ بعد التعرف على كتاب الحياة بفك شيفرة الجينات يزعم أصحاب هذا العلم بفك شيفرة الروح عن طريق قياس الدماغ ووظائف مختلف الأعصاب الموجودة فيه. لكن هيهات ثم هيهات... يضيف الباحث بقوة، لأنه ولو استطعنا أن نحصر قوانين الخلايا وقوانين الأعصاب ووظائفها كاملة، فهذه القوانين عاجزة كل العجز أن تشرح عصبيا أحاسيس مثل الرغبة والفرح والحزن... والتأثر... والانفعال.. أو تمثلها في الآلة وإن حاولت محاكاة كيفية اشتغال الدماغ البشري.

إن زعم علماء البيولوجية العصبية بإعادة مكْيَنَة الروح البشرية وقياسها رياضيا مجرد رجم بالغيب وخبط عشواء..

فليس من الممكن على الإطلاق أن نرصد الذاتية (subjectivité) موضوعيا (objectivement)، أوأن ننفذ إلى أعماق الروح، فالروح لا يمكن برمجتها واللاوعي لا يمكن سبر أغواره رياضيا، فثمة دهاليز سرية في الروح لم يستطيع أحد الوصول إليها اليوم. والروح البشرية ليست آلة، حتى نستطيع محاكاتها وتمثلها رياضيا، كما لن نستطيع سبر أغوارها لأن الذات ذات ووعيها ذاتي، يتقبل الحكمة والانفعال، العقلانية واللاعقلانية، الصحة والخطأ... والذاتية بهذا المعنى مختلفة عن الموضوعية، ولا يمكن دراسة ما هو ذاتي موضوعيا ولا القياس بينهما.

فالنفس ـ الروح ـ تستعصي على الأنظمة الرياضية والفيزيائية الأشد تعقيدا وتطورا، ما دام أن وعي الإنسان يتداخل فيه الوجدان والقياس والحس والعقل وغير المتوقع والذي لم يخطر على بال، بحيث لا تستطيع آلة أن تحدد على وجه التحديد معرفة نسبة هذا وذاك في الأداء النفسي والعصبي. وبالتالي يستحيل ترصيف وتصنيف تمظهرات الروح في الأجهزة العصبية بطريقة رياضية. فالوعي ليس سلوكا محضا حتى يمكن قياسه، والحالة الذهنية ليس حالة فيزيائية فحسب.

يرد هذا الباحث محاولات الفيزيزلوجيين الذين يحاولون عقد تشبيه بين الإنسان والآلة ويرفض كل من أبحاث البيولوجيا الاجتماعية وأبحاث منسكي وأرمسترونغ وشانجوالفرنسي أو أطروحات الفيلسوف الأمريكي كواين وهنري أتلان التي تعتبر << الذهن البشري موضوعا فيزيائيا>> أو<< تختزل الإنسان في المادة>> أو تلك التي تعقد تماهي بين << الذهنية والعصبية>>. كما يرد مقولة وليم جيمس الذي يعتقد إن التجربة تجمع كل الطبائع الحسية وأن الفصل بين الذات والموضوع فصل مصطنع وغير طبيعي، لأن بحسبها الفكرة والشيئ المادي طبيعة واحدة هي التجربة الأصلية.

ولقد رفض أيضا الباحث التفسير الذي قدمه واتسون أحد مؤسسي السلوكية التي ترفض رفضا باتا الحياة الداخلية والنوازع والدوافع في تفسير سيكولوجية الإنسان، معتبرا إنه ليس من الممكن اختزال الروح في المادة كما ينادي بذلك علم المعرفة الذهنية الذي يختزل الذهن في الحساب، وتحاول فهم طبيعة التجارب الذاتية بدراستها كجملة علاقات سلوكية، بحيث يشير إلى إنه عندما يتم إخضاع النشاط العصبي للمراقبة والفحص الضوئي، فالمراقب الذي يرى ما يجري في الدماغ لا يرى ما تراه عين ذلك الدماغ، بحيث لا يرى إلا قسطا صغيرا من النشاط العصبي...>>.

والأهم من ذلك كله، كيف يتم المرور من التركيب العصبي للتجربة إلى التجربة الذاتية المرتبطة بها؟

وحتى إذا قبلنا ما يروجه الفيزيولوجيون من أن التجربة الواعية هي سيرورة عصبية، فليس هناك من يدفعنا إلى الاعتقاد بأن التجربة هاته تمت بصلة ما يجري في الدماغ، فما يجري في الدماغ ليس مرآة للوعي الذاتي كنفس وإحساس.

ويستشهد جون فرانسوا لومبير بالحوار الذي دار بين الفيلسوف الفرنسي بول ريكور(1912- 2005) وعالم الفيزيزلوجيا العصبية جون شانجو، بحيث يتوزع الفهم الإنساني بحسب رائد الهرمينوطيقا إما عبر:<< الخطاب النفسي أو الخطاب الفيزيزلوجي، لكن العلاقة بينهما إشكالية لأننا لم نستطع حتى الآن الربط بينهما في أي منهما. إذ ينقصنا خطاب آخر[...]، ما دام إن المقولات من خلق دماغنا والعالم ليس بحوزته شيئا منها سوى تلك التي خلقها الإنسان>>. فالدماغ يؤكد بول ريكور شرط الفكر ولكن هذا الدماغ لا يفكر كفكر يفكر ذاتيا.

من هذا المنطلق ليست الروح هي المشكلة والغامضة والمستعصية كما جرت العادة، بل هي المادة، فكل من المادة والروح مستعصيان وغامضين، فلا استطعنا سبر أغوار المادة ولا سبر أغوار الروح، فالواقع ما زال متدثرا بـ<<حجاب>> وليس بوسع اللسان الكلام عنه.

* * *

وبعد ذلك تدخل الأب لويس بيرنوت من الكنيسة البروتستانية وهو مهندس ويحمل دكتوراة في الفلسفة، ليشارك في اللقاء بمداخلة قدمت << أمثلة عن اندماج المعارف العلمية في لاهوتية البروتستنانت>>، استهلها بإثارة العلاقة بين العلم والله أو كما يسميه نوع العلاقة التي تربط بين الميتافيزيقا والعلم، ورؤية المسيحيين لمسألة خلق الكون التي تجسد في نظره أحسن ربط بين العلم والدين.

ويبدأ الأب لويس من خلال كيفية معالجة الفاصل الموجود بين الكتابة العلمية والكتابة الدينية في مسألة خلق الكون. فالعلم يصور تكون العالم وفق أنظمة هندسية وسيرورة تاريخية معقدة، بالمقابل يقدم الدين المسيحي رؤية قائمة على أن الله خلق الكون في سبعة أيام. ومهما يكن من فرق بين الأطروحتين، يجب أن نلتفت أولا لنوع العلاقة التي ربطها المسيحيون بين الدين والعلم من خلالهما، بحيث تأرجحت هذه الرؤية بين البحث في العلم عن ما لا يختلف مع الإنجيل كالوصايا العشر، بحيث تم قبول تلك الوصايا كأوامر إلهية يجب العمل بها، بالمقابل تم ترك تفسير تشكل الكون في سبعة أيام والتسليم بأن المسيح مشي على ظهر الماء، لأن ذلك يخالف التصور العلمي المحض وما لا يقبله منطق، وذلك كله لا يقدم ولا يؤخر في إيمانهم بالله ما دام إن هذه المقاربة التاريخية النقدية تعتمد على أن كتابة الإنجيل تمت في سياق تاريخي محدد، ولذلك يتطلب الأمر وضع نصوصه في سياقها التاريخي والمجتمعي، بحيث لا يمكن الاستدلال على تلك القصص على وجه الصحة، وإنما اعتبارها من صميم ما كان الشعب آنذاك يؤمن به ويعتقد من أساطير تداخلت بالنص وامتزجت به.

وعلى صعيد آخر، هناك نزعة نقدية علموية، تفيد بطرح سؤال مركزي يؤكد أولا وأخيرا على جوهر الرسالة التي يبشر بها الكتاب المقدس والاقتصار على ذلك، بحيث يصادفنا في هذا المجال نصوص تطرح إشكالية تلقي النصوص الدينة، فعندما نجد مثلا في إنجيل بولس: << يجب على المرأة أن تلزم الصمت في الكنيسة>>، الذي فهمه البعض على أنه منع للمرأة في الكنيسة ودنس، يقتضي الفهم الصحيح تأويل ذلك، على نحو القبول بالمرأة في الكنائس وليس حرمانها من ذلك.

وهذا ما يتجلى أيضا في عدة قضايا أخرى منها: كالتوفيق بين قول الإنجيل بخلق العالم في سبعة أيام، على نحو يؤكد تأويل شكل المدة الزمني بالقياس إلى الزمن الإلهي، على نحو يساعدنا من تجاوز الصدام مع العلم.

فما يهم القراءة اللاهوتية ليس ما تقوله آيات الإنجيل حرفيا، بل ما ذا تعني؟ وما دلالتها؟ فالإنجيل بهذا المعنى لغة مجازية، يجب قراءته على ضوء الميتافيزيقا وأسئلة المعنى المجرة والمتعالية. بيد إن ذلك لا ينفي وجود صدام بين القراءات التي تؤمن بالخوارق ومن يعتبرها مجرد مزحة.

وإجمالا هناك الاتجاه اللاهوتي الـربوبي (Théologie déiste) الذي يرى في مسألة خلق الكون، أن الله خلق ساعة الكون دون التدخل في عقاربها، في حين يعتبر أهل التوحيد (Théiste) إن الله مستمر في تفاعله مع العالم ويتدخل فيه باستمرار.. وغير منفصل عنه...

ويخلص الأب لويس إن الكون في تطور دائم، يتأرجح بين فوضى الأنثروبيا والانسجام والتوازن، والله بهذه المعنى تعقيد ضروري للكون يجمع بين انتظامه كمعلومة من ناحية وكفوضى ـ أنثروبيا ـ (قياس الفوضى الفيزيائي في الكون) من ناحية أخرى. فالقدرة الربانية لا تتدخل في الكون بعنف رأفة بعباده، وإنما تتدخل فيه رويدا رويدا على المدى البعيد وليس على المدى المتوسط والقصير.

* * *

أما المداخلة الخامسة التي أثارت كثيرا من الاستحسان والجدل، تقدم بها أستاذ فلسفة العلوم المساعد بمعهد الدراسات العليا للتجارة جون ستون تحت عنوان << الباراديغمات ـ النماذج ـ الجديدة في العلم وقضية البحث عن المعنى>>.

بداية اعتبر إن الأنموذج المتبع في الأديان التوحيدية قائم على الفصل بين الخالق والخلق، بالمقابل إن الأنموذج الذي سيطر في العلم متعدد وغير مستقر. فإذا عدنا إلى العلوم الكلاسيكية سنجد أن الباراديغمات أو الأنماط القياسية ـ النماذج ـ التي سيطرت في العلوم تباعا عبر مراحل معينة، اختلفت من عصر إلى عصر آخر، فما كان يعتبر بديهيا ومسلمة في مرحلة، اعتبر في مرحلة أخرى خرافة أو ضرب من التنجيم.

هكذا كان تاريخ العلم أفكارا تصحح أفكارا، بحيث إن أهم ما يميز تاريخ الفكر العلمي بحسب كارل بوبر التكذيب وتصحيح تجاوزه، أو ما اعتبره باشلار الخطأ الذي يتم تصويبه، ما يكفل للعلم التقدم ويفتح أمامه أفاقا أوسع. وبالعودة إلى حيثيات أي أنموذج مثلا، سنجد إن العلم لم يكن يسر في طريق معبد مستقيم، بل يسير في منعرجات ومنحنيات، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان ويصارع فيه الصواب بالخطأ، حتى اصبح ذلك بمثابة قاعدة مستمرة...

فمقابل الزمن والمكان المطلقين التي بشر بها نيوتن، ظهرت نسبية أينشتاين، ومقابل حتمانية أو حتمية الرياضي الفرنسي سيمون بيير دو لبلاس (1749-1827) التي جمعت بين السبب والمسبب (على نحو يفهم العالم الحالي نتيجة لمرحلته السابقة وباعثا لما سيؤول إليه لاحقا) ظهرت لا حتمية الفيزيائي فيرنر هاينزبرغ(1901- 1976).

وبين هذا وذاك، يمكن فهم سر التحول العبقري للإنسان الذي كان يفهم "أن العلة والفعل" هما أدوات لا غنى عنها للتفكير في أي فرع من فروع العلم، وأن المادة شيئ صلب جامد. غير إن علماء الفيزياء الكوانطية قلبوا ذلك رأسا على عقب، فـ"الذرة" مادة على الرغم من أننا لا نراها ولا نلمسها، مما مهد لأن تعلمنا الميكانيكا الكوانطية (التكميم) ونظريتها النسبية أن لا شيئا مطلق في هذا العالم وليس ثمة إطلاقية وحيدة للزمان والمكان، كان من أبرز تداعياته الاعتراف بأن المادة ليست شيئا صلبا جامدا نتلمسه (لأن ذلك كان هو مفهوم الميكانيكية للمادة)، بل أصبحت شعاعا وجسيمات وإلكترونات...

ويضرب الباحث مثلا آخر عن التجاوزات التي حصلت في تاريخ النظريات العلمية، فبعدما كنا نعتقد أن المنطق يصوغ حلولا صورية مكتملة كما كان يعتقد عالم الرياضيات دافيد هلبرت (1826- 1934) الذي كان يبحث في أصول الرياضيات عبر المنطق الصوري، لأن القضايا الرياضية الخالصة تستوجب اتفاقا كليا على قواعد وأنظمة صورية إذا احترمناها وصلنا الحقيقة واليقين ضرورة، بحيث بذل جهد غير قليل للعناية بالتحسيب الصوري والتصورات الرياضية والأنساق الشكلية، حتى يمكن اختزال العالم في أنظمة رياضية ومنطقية، طلع علينا العبقري كورت غودل (1906- 1978) بنظرية محكمة وقوية تبين بأنه لا اكتمال، لا في الأنساق الرياضية ولا في المنطق الصوري، وأن أي نسق صوري مهما بلغت قوته ومتانته توجد فيه قضية لا يمكن إثباتها مطلقا ولا إثبات نفيها، أي غير قابلة للحسم عن طريق الصواب والخطأ، فهي تحتمل الوجهان.

معنى ذلك استحالة اكتمال أي نسق صوري على وجه المطلق، مما دفعه لتأسيس ما يعرف بـ"نظرية اللاكتمال" التي هزت اليقين الرياضي والمنطقي على حد سواء. لذلك فقوانين الفكر كما يتم تداوله في المنطق ليس بمطلق، بل نسبي.

وعلى صعيد البيولوجيا بعد أن استطاع داروين أن يقدم فهما تطوريا وفق قاعدة النشوء والارتقاء، التي قضت بأن كل أنواع الحياة فروعا لشجرة عائلية ارتقائية، اعتقدنا على إثره زمنا غير قليل أن التطور نتيجة للعملية الاصطفائية، ظهر غودوين بفكرة التطور المزدوج للنشوء، مما أعاد النظر في نظرية داروين التي قالت بأن الصفات المكتسبة تنتقل وراثيا بطريقة حتمية، ليتضح أن التغييرات الوراثية تتم بفعل أسباب عشوائية واحتمالية، فجاك مونو مثلا يعتبر أن الكائن الحي لم يظهر بطريقة ميكانيكية، فالجينات والمورثات أكثر دهاء وتعقيدا.

كل هذه التطورات التي أصابت العلوم الحديثة تترجم حقيقة ما زالت في عداد المجهول، تتجاوز سائر النظريات العلمية للكون، وهو ما تقر به الفيزياء الكوانطية عندما اعترفت بوجود شيء وراء الزمان والمكان، شيئ لا منتهي ... وأن عالمنا مفتوح على جميع الاحتمالات. مثاله مثل الذي يقول<< إني اشك في ما أقول، وإذا قلت أشك في كوني أشك، هذا يعني أنني لا أشك بأني أشك>>.

وهذه اللاوثوقية واللاحتمانية واللاتعينية والاحتمالية أبعد من الموضوعية وأقرب إلى الذاتية، وهي بالمعنى المعرفي شبيهة بأسس المقاربة الدينية الذاتية المفتوحة في مناجاتها السرمدية للكون. ما دام ليس هناك عقل مطلق ولا زمان ومكان مطلق ولا فيزياء مطلقة ولا منطق مطلق حتى في أعتى وأقوى النظريات الفيزيائية والرياضية. مما يمهد في نظر الباحث بأن نضع للعلم جدار ميتافيزيقي تستند عليه الفيزياء في معالجتها لسر الوجود وروح الظواهر الكونية.

وفي المداخلة الأخيرة قدم جاك أرنود الراهب الدومينيكي المستشار بالمركز الوطني للدراسات الفضائية بحثا حول << العلم والثيولوجيا: طريق واحد للبحث>>، انطلق فيه من ضرورة البحث عن مقاربة تستوعبهما معا، فالعالم متحرك وغير ساكن ومتقلب، يسع كل من المقاربة اللاهوتية والمقاربة العلمية، لكن يجب البحث عن مقاربة شمولية تَسعْهُما جميعا.

والمقاربة التي بوسعها تحقيق ذلك هي المقاربة السياسية العامة، بوصفها فن الممكن، لأنه في هذا الإطار يمكن للمقاربة اللاهوتية أن تتلمس طريقها بدون الخوف من الوقوع في الخطأ أو الدوس على الخطوط الحمراء. فلا جدوى من مقاربة دينية بعيدة عن حَرِّ الواقع وتهيم على نفسها في علياء السماء.

فإشكالية الخلاص الروحي مهمة، لكن خلاص البلاد والعباد أهم. بيد إن ذلك لا يعني في نظره هنا الاختيار بين عالم متعالي وعالم أرضي، لأن الذي يهم بالنسبة له هو اقتراب رجل الدين من مشاكل الناس واكتوائه بأسئلتهم وهمومهم الحارقة والمشاركة في الإجابة عنها، والعلم كما الدين لهما في ظل المقاربة السياسية نصيب من المشاركة في بلورة حلول ومخارج. دور يعي أصحابه من خلاله أن ما يجرونه من أبحاث في مختبراتهم لها تداعيات وآثار على قلوب وعقول الناس. لذلك وجب طرح السؤال عن مغزى ما يقومون به، والتخلص من برودة وغسق التقنية اللذان أطبقا على الكون وجعلاه باردا







 
رد مع اقتباس